كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



وَقال ابْنُ عُمَرَ: أَهَلَّ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِالْحَجِّ لَمَّا اسْتَوَى عَلَى بَعِيرِهِ.
وَهَذَا الْمَعْنَى يَتَضَمَّنُ شَيْئَيْنِ: عُلُوَّهُ عَلَى مَا اسْتَوَى عَلَيْهِ وَاعْتِدَالَهُ أَيْضًا. فَلَا يُسَمُّونَ الْمَائِلَ عَلَى الشَّيْءِ مُسْتَوِيًا عَلَيْهِ وَمِنْهُ حَدِيثُ الْخَلِيلِ بْنِ أَحْمَد لَمَّا قال: اسْتَوُوا. وَقوله:
ثُمَّ اسْتَوَى بِشْرٌ عَلَى الْعِرَاقِ ** مِنْ غَيْرِ سَيْفٍ وَدَمٍ مهراق

هُوَ مِنْ هَذَا الْبَابِ؛ فَإِنَّ الْمُرَادَ بِهِ بِشْرُ بْنُ مَرْوَانَ وَاسْتِوَاؤُهُ عَلَيْهَا أَيْ عَلَى كُرْسِيِّ مُلْكِهَا لَمْ يُرِدْ بِذَلِكَ مُجَرَّدَ الِاسْتِيلَاءِ؛ بَلْ اسْتِوَاءٌ مِنْهُ عَلَيْهَا؛ إذْ لَوْ كَانَ كَذَلِكَ لَكَانَ عَبْدُ الْمَلِكِ الَّذِي هُوَ الْخَلِيفَةُ قَدْ اسْتَوَى أَيْضًا عَلَى الْعِرَاقِ وَعَلَى سَائِرِ مَمْلَكَةِ الْإِسْلَامِ وَلَكَانَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ قَدْ اسْتَوَى عَلَى الْعِرَاقِ وَخُرَاسَانَ وَالشَّامِ وَمِصْرَ وَسَائِرِ مَا فَتَحَهُ وَلَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَدْ اسْتَوَى عَلَى الْيَمَنِ وَغَيْرهَا مِمَّا فَتَحَهُ. وَمَعْلُومٌ أَنَّهُ لَمْ يُوجَدْ فِي كَلَامِهِمْ اسْتِعْمَالُ الِاسْتِوَاءِ فِي شَيْءٍ مِنْ هَذَا وَإِنَّمَا قِيلَ فِيمَنْ اسْتَوَى بِنَفْسِهِ عَلَى بَلَدٍ؛ فَإِنَّهُ مُسْتَوٍ عَلَى سَرِيرِ مُلْكِهِ كَمَا يُقال جَلَسَ فُلَانٌ عَلَى السَّرِيرِ وَقَعَدَ عَلَى التَّخْتِ. وَمِنْهُ قوله.
{وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ وَخَرُّوا لَهُ سُجَّدًا} وَقوله: {إنِّي وَجَدْتُ امْرَأَةً تَمْلِكُهُمْ وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ وَلَهَا عَرْشٌ عَظِيمٌ}.
وَقول الزمخشري وَغَيْرِهِ: اسْتَوَى عَلَى كَذَا بِمَعْنَى مَلَكَ. دَعْوَى مُجَرَّدَةٌ. فَلَيْسَ لَهَا شَاهِدٌ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ وَلَوْ قُدِّرَ ذَلِكَ لَكَانَ هَذَا الْمَعْنَى بَاطِلًا فِي اسْتِوَاءِ اللَّهِ عَلَى الْعَرْشِ؛ لِأَنَّهُ أَخْبَرَ أَنَّهُ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ وَقَدْ أَخْبَرَ أَنَّ الْعَرْشَ كَانَ مَوْجُودًا قَبْل خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ كَمَا دَلَّ عَلَى ذَلِكَ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ وَحِينَئِذٍ فَهُوَ مِنْ حِينِ خَلَقَ الْعَرْشَ مَالِكٌ لَهُ مُسْتَوْلٍ عَلَيْهِ فَكَيْفَ يَكُونُ الِاسْتِوَاءُ عَلَيْهِ مُؤَخَّرًا عَنْ خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ. وَأَيْضًا فَهُوَ مَالِكٌ لِكُلِّ شَيْءٍ مُسْتَوْلٍ عَلَيْهِ فَلَا يُخَصُّ الْعَرْشُ بِالِاسْتِوَاءِ وَلَيْسَ هَذَا كَتَخْصِيصِهِ بِالرُّبُوبِيَّةِ فِي قوله: {رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ} فَإِنَّهُ قَدْ يُخَصُّ لِعَظَمَتِهِ وَلَكِنْ يَجُوزُ ذَلِكَ فِي سَائِرِ الْمَخْلُوقَاتِ فَيُقال: رَبِّ الْعَرْشِ وَرَبِّ كُلِّ شَيْءٍ وَأَمَّا الِاسْتِوَاءُ فَمُخْتَصٌّ بِالْعَرْشِ فَلَا يُقال اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ وَعَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَلَا اسْتَعْمَلَ ذَلِكَ أحد مِنْ الْمُسْلِمِينَ فِي كُلِّ شَيْءٍ وَلَا يُوجَدُ فِي كِتَابٍ وَلَا سُنَّةٍ كَمَا اُسْتُعْمِلَ لَفْظُ الرُّبُوبِيَّةِ فِي الْعَرْشِ خَاصَّةً وَفِي كُلِّ شَيْءٍ عَامَّةً وَكَذَلِكَ لَفْظُ الْخَلْقِ وَنَحْوُهُ مِنْ الْأَلْفَاظِ الَّتِي تَخُصُّ وَتَعُمُّ. كَقوله تعالى: {اقرأ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ} فَالِاسْتِوَاءُ مِنْ الْأَلْفَاظِ الْمُخْتَصَّةِ بِالْعَرْشِ لَا تُضَافُ إلَى غَيْرِهِ لَا خُصُوصًا وَلَا عُمُومًا وَهَذَا مَبْسُوطٌ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ. وَإِنَّمَا الْغَرَضُ بَيَانُ صَوَابِ كَلَامِ السَّلَفِ فِي قولهمْ: الِاسْتِوَاءُ مَعْلُومٌ بِخِلَافِ مَنْ جَعَلَ هَذَا اللَّفْظَ لَهُ بِضْعَةَ عَشَرَ مَعْنًى. كَمَا ذَكَرَ ذَلِكَ ابْنُ عَرَبِيٍّ المعافري. يُبَيِّنُ هَذَا أَنَّ سَبَبَ نُزُولِ هَذِهِ الْآيَةِ كَانَ قُدُومَ نَصَارَى نَجْرَانَ وَمُنَاظَرَتَهُمْ لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فِي أَمْرِ الْمَسِيحِ كَمَا ذَكَرَ ذَلِكَ أَهْلُ التَّفْسِيرِ وَأَهْلُ السِّيرَةِ وَهُوَ مِنْ الْمَشْهُورِ بَلْ مِنْ الْمُتَوَاتِرِ أَنَّ نَصَارَى نَجْرَانَ قَدِمُوا عَلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَدَعَاهُمْ إلَى الْمُبَاهَلَةِ الْمَذْكُورَةِ فِي سُورَةِ آلِ عِمْرَانَ فَأَقَرُّوا بِالْجِزْيَةِ وَلِمَ يُبَاهِلُوهُ وَصَدْرُ آلِ عِمْرَانَ نَزَلَ بِسَبَبِ مَا جَرَى؛ وَلِهَذَا عَامَّتُهَا فِي أَمْرِ الْمَسِيحِ وَذَكَرُوا أَنَّهُمْ احْتَجُّوا بِمَا فِي القرآن مِنْ لَفْظِ (أَنَّا) و(نَحْنُ) وَنَحْوِ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ الْآلِهَةَ ثَلَاثَةٌ فَاتَّبَعُوا الْمُتَشَابِهَ وَتَرَكُوا الْمُحْكَمَ الَّذِي فِي القرآن مِنْ أَنَّ الْإِلَهَ وَأحد {ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ} فَإِنَّهُمْ قَصَدُوا بِذَلِكَ الْفِتْنَةَ وَهِيَ فِتْنَةُ الْقُلُوبِ بِالْكُفْرِ وَابْتِغَاءِ تَأْوِيلِ لَفْظِ (إنَّا) و(نَحْنُ) وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَ هَذِهِ الْأَسْمَاءِ إلَّا اللَّهُ لِأَنَّ هَذِهِ الْأَسْمَاءَ إنَّمَا تُقال لِلْوَأحد الَّذِي لَهُ أَعْوَانٌ إمَّا أَنْ يَكُونُوا شُرَكَاءَ لَهُ وَإِمَّا أَنْ يَكُونُوا مَمَالِيكَ لَهُ. وَلِهَذَا صَارَتْ مُتَشَابِهَةً فَإِنَّ الَّذِي مَعَهُ شُرَكَاءُ يَقول: فَعَلْنَا نَحْنُ كَذَا وَإِنَّا نَفْعَلُ نَحْنُ كَذَا وَهَذَا مُمْتَنِعٌ فِي حَقِّ اللَّهِ تعالى وَاَلَّذِي لَهُ مَمَالِيكُ وَمُطِيعُونَ يُطِيعُونَهُ- كَالْمَلِكِ- يَقول: فَعَلْنَا كَذَا. أَيْ أَنَا فَعَلْت بِأَهْلِ مُلْكِي وَمِلْكِي وَكُلُّ مَا سِوَى اللَّهِ مَخْلُوقٌ لَهُ مَمْلُوكٌ لَهُ وَهُوَ سبحانه يُدَبِّرُ أَمْرَ الْعَالَمِ بِنَفْسِهِ وَمَلَائِكَتِهِ الَّتِي هِيَ رُسُلُهُ فِي خَلْقِهِ وَأَمْرِهِ وَهُوَ سبحانه أَحَقُّ مَنْ قال: إنَّا وَنَحْنُ بِهَذَا الِاعْتِبَارِ فَإِنَّ مَا سِوَاهُ لَيْسَ لَهُ مُلْكٌ تَامٌّ وَلَا أَمْرٌ مُطَاعٌ طَاعَةً تَامَّةً فَهُوَ الْمُسْتَحِقُّ أَنْ يَقول: إنَّا ونَحْنُ وَالْمُلُوكُ لَهُمْ شَبَهٌ بِهَذَا فَصَارَ فِيهِ أَيْضًا مِنْ الْمُتَشَابِهِ مَعْنًى آخَرُ وَلَكِنَّ الَّذِي يُنْسَبُ لِلَّهِ مِنْ هَذَا الِاخْتِصَاصِ لَا يُمَاثِلُهُ فِيهِ شَيْءٌ وَتَأْوِيلُ ذَلِكَ مَعْرِفَةُ مَلَائِكَتِهِ وَصِفَاتِهِمْ وَأَقْدَارِهِمْ وَكَيْفَ يُدَبِّرُ بِهِمْ أَمْرَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَقَدْ قال تعالى: {وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إلَّا هُوَ} فَهَذَا التَّأْوِيلُ لِهَذَا الْمُتَشَابِهِ لَا يَعْلَمُهُ إلَّا هُوَ وَإِنْ عَلِمْنَا تَفْسِيرَهُ وَمَعْنَاهُ؛ لَكِنْ لَمْ نَعْلَمْ تَأْوِيلَهُ الْوَاقِعَ فِي الْخَارِجِ؛ بِخِلَافِ قوله: {اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ} فَإِنَّهَا آيَةٌ مُحْكَمَةٌ لَيْسَ فِيهَا تَشَابُهٌ فَإِنَّ هَذَا الِاسْمَ مُخْتَصٌّ بِاَللَّهِ لَيْسَ مِثْلَ (إنَّا) و(نَحْنُ) الَّتِي تُقال لِمَنْ لَهُ شُرَكَاءُ وَلِمَنْ لَهُ أَعْوَانٌ يَحْتَاجُ إلَيْهِمْ وَاَللَّهُ تعالى مُنَزَّهٌ عَنْ هَذَا وَهَذَا. كَمَا قال: {قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَا يَمْلِكُونَ مِثْقال ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِنْ شِرْكٍ وَمَا لَهُ مِنْهُمْ مِنْ ظَهِيرٍ} وَقال: {وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ ولدا وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ وَلِيٌّ مِنَ الذُّلِّ وَكَبِّرْهُ تَكْبِيرًا} فَالْمَعْنَى الَّذِي يُرَادُ بِهِ هَذَا فِي حَقِّ الْمَخْلُوقِينَ لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ نَظِيرُهُ ثَابِتًا لِلَّهِ؛ فَلِهَذَا صَارَ مُتَشَابِهًا.
وَكَذَلِكَ قوله: {ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ} فَإِنَّهُ قَدْ قال: {وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِّ} وَقال: {فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ} وَقال: {فَإِذَا اسْتَوَيْتَ أَنْتَ وَمَنْ مَعَكَ عَلَى الْفُلْكِ} وَقال: {لِتَسْتَوُوا عَلَى ظُهُورِهِ} فَهَذَا الِاسْتِوَاءُ كُلُّهُ يَتَضَمَّنُ حَاجَةَ الْمُسْتَوِي إلَى الْمُسْتَوَى عَلَيْهِ وَأَنَّهُ لَوْ عَدِمَ مَنْ تَحْتَهُ لَخَرَّ وَاَللَّهُ تعالى غَنِيٌّ عَنْ الْعَرْشِ وَعَنْ كُلِّ شَيْءٍ بَلْ هُوَ سبحانه بِقُدْرَتِهِ يَحْمِلُ الْعَرْشَ وَحَمَلَةُ الْعَرْشُ وَقَدْ رُوِيَ: أَنَّهُمْ إنَّمَا أَطَاقُوا حَمْلَ الْعَرْشِ لَمَّا أَمَرَهُمْ أَنْ يَقولوا: لَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إلَّا بِاَللَّهِ. فَصَارَ لَفْظُ الِاسْتِوَاءِ مُتَشَابِهًا يَلْزَمُهُ فِي حَقِّ الْمَخْلُوقِينَ مَعَانِي يُنَزَّهُ. اللَّهُ عَنْهَا. فَنَحْنُ نَعْلَمُ مَعْنَاهُ وَأَنَّهُ الْعُلُوُّ وَالِاعْتِدَالُ؛ لَكِنْ لَا نَعْلَمُ الْكَيْفِيَّةَ الَّتِي اخْتَصَّ بِهَا الرَّبُّ الَّتِي يَكُونُ بِهَا مُسْتَوِيًا مِنْ غَيْرِ افْتِقَارٍ مِنْهُ إلَى الْعَرْشِ بَلْ مَعَ حَاجَةِ الْعَرْشِ وَكُلُّ شَيْءٍ مُحْتَاجٌ إلَيْهِ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ وَأَنَّا لَمْ نَعْهَدْ فِي الْمَوْجُودَاتِ مَا يَسْتَوِي عَلَى غَيْرِهِ مَعَ غِنَاهُ عَنْهُ وَحَاجَةِ ذَلِكَ الْمُسْتَوَى عَلَيْهِ إلَى الْمُسْتَوِي فَصَارَ مُتَشَابِهًا مِنْ هَذَا الْوَجْهِ فَإِنَّ بَيْنَ اللَّفْظَيْنِ وَالْمَعْنَيَيْنِ قَدْرًا مُشْتَرَكًا وَبَيْنَهُمَا قَدْرًا فَارِقًا هُوَ مُرَادٌ فِي كُلٍّ مِنْهُمَا وَنَحْنُ لَا نَعْرِفُ الْفَارِقَ الَّذِي امْتَازَ الرَّبُّ بِهِ فَصِرْنَا نَعْرِفُهُ مِنْ وَجْهٍ وَنَجْهَلُهُ مِنْ وَجْهٍ وَذَلِكَ هُوَ تَأْوِيلُهُ وَالْأَوَّلُ هُوَ تَفْسِيرُهُ.
وَكَذَلِكَ مَا أَخْبَرَ اللَّهُ بِهِ فِي الْجَنَّةِ مِنْ الْمَطَاعِمِ وَالْمَشَارِبِ وَالْمَلَابِسِ: كَاللَّبَنِ وَالْعَسَلِ وَالْخَمْرِ وَالْمَاءِ فَإِنَّا لَا نَعْرِفُ لَبَنًا إلَّا مَخْلُوقًا مِنْ مَاشِيَةٍ يَخْرُجُ مِنْ بَيْنِ فَرْثٍ وَدَمٍ وَإِذَا بَقِيَ أَيَّامًا يَتَغَيَّرُ طَعْمُهُ وَلَا نَعْرِفُ عَسَلًا إلَّا مِنْ نَحْلٍ تَصْنَعُهُ فِي بُيُوتِ الشَّمْعِ الْمُسَدَّسَةِ فَلَيْسَ هُوَ عَسَلًا مُصَفًّى وَلَا نَعْرِفُ حَرِيرًا إلَّا مِنْ دُودِ الْقَزِّ وَهُوَ يَبْلَى وَقَدْ عَلِمْنَا أَنَّ مَا وَعَدَ اللَّهُ بِهِ عِبَادَهُ لَيْسَ مُمَاثِلًا لِهَذِهِ لَا فِي الْمَادَّةِ وَلَا فِي الصُّورَةِ وَالْحَقِيقَةِ بَلْ لَهُ حَقِيقَةٌ تُخَالِفُ حَقِيقَةَ هَذِهِ وَذَلِكَ هُوَ مِنْ التَّأْوِيلِ الَّذِي لَا نَعْلَمُهُ نَحْنُ قال ابْنُ عَبَّاسٍ: لَيْسَ فِي الدُّنْيَا مِمَّا فِي الْجَنَّةِ إلَّا الْأَسْمَاءُ. لَكِنْ يُقال: فَالْمَلَائِكَةُ قَدْ تَعْلَمُ هَذَا. فَيُقال: هِيَ لَا تَعْلَمُ مَا لَمْ يُخْلَقْ بَعْدُ وَلَا تَعْلَمُ كُلَّ مَا فِي الْجَنَّةِ وَأَيْضًا فَمِنْ النِّعَمِ مَا لَا تَعْرِفُهُ الْمَلَائِكَةُ وَالتَّأْوِيلُ يَتَنَاوَلُ هَذَا كُلَّهُ. وَإِذَا قَدَّرْنَا أَنَّهَا تَعْرِفُ مَا لَا نَعْرِفُهُ فَذَاكَ لَا يَكُونُ مِنْ الْمُتَشَابِهِ عِنْدَهَا وَيَكُونُ مِنْ الْمُتَشَابِهِ عِنْدَنَا فَإِنَّ الْمُتَشَابِهَ قَدْ يُرَادُ بِهِ مَا هُوَ صِفَةٌ لَازِمَةٌ لِلْآيَةِ وَقَدْ يُرَادُ بِهِ مَا هُوَ مِنْ الْأُمُورِ النِّسْبِيَّةِ فَقَدْ يَكُونُ. مُتَشَابِهًا عِنْدَ هَذَا مَا لَا يَكُونُ مُتَشَابِهًا عِنْدَ هَذَا.
وَكَلَامُ الإمام أَحْمَد وَغَيْرِهِ مِنْ السَّلَفِ يَحْتَمِلُ أَنْ يُرَادَ بِهِ هَذَا فَإِنَّ أَحْمَد ذَكَرَ فِي رَدِّهِ عَلَى الْجَهْمِيَّة: أَنَّهَا احْتَجَّتْ بِثَلَاثِ آيَاتٍ مِنْ الْمُتَشَابِهِ: قوله تعالى: {وَهُوَ اللَّهُ فِي السَّمَاوَاتِ وَفِي الْأَرْضِ} وَقوله: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} وَقوله: {لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ} وَقَدْ فَسَّرَ أَحْمَد قوله: {وَهُوَ اللَّهُ فِي السَّمَاوَاتِ وَفِي الْأَرْضِ}. فَإِذَا كَانَتْ هَذِهِ الْآيَاتُ مِمَّا عَلِمْنَا مَعْنَاهَا لَمْ تَكُنْ مُتَشَابِهَةً عِنْدَنَا وَهِيَ مُتَشَابِهَةٌ عِنْدَ مَنْ احْتَجَّ بِهَا وَكَانَ عَلَيْهِ أَنْ يَرُدَّهَا هُوَ إلَى مَا يَعْرِفُهُ مِنْ الْمُحْكَمِ وَكَذَلِكَ قال أَحْمَد فِي تَرْجَمَةِ كِتَابِهِ الَّذِي صَنَّفَهُ فِي الْحَبْسِ وَهُوَ الرَّدُّ عَلَى الزَّنَادِقَةِ وَالْجَهْمِيَّة فِيمَا شَكَّتْ فِيهِ مِنْ مُتَشَابِهِ القرآن وَتَأَوَّلَتْهُ عَلَى غَيْرِ تَأْوِيلِهِ ثُمَّ فَسَّرَ أَحْمَد تِلْكَ الْآيَاتِ آيَةً آيَةً فَبَيَّنَ أَنَّهَا لَيْسَتْ مُتَشَابِهَةً عِنْدَهُ بَلْ قَدْ عَرَّفَ مَعْنَاهَا. وَعَلَى هَذَا فَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَعْلَمُونَ تَأْوِيلَ هَذَا الْمُتَشَابِهِ الَّذِي هُوَ تَفْسِيرُهُ وَأَمَّا التَّأْوِيلُ الَّذِي هُوَ الْحَقِيقَةُ الْمَوْجُودَةُ فِي الْخَارِجِ فَتِلْكَ لَا يَعْلَمُهَا إلَّا اللَّهُ وَلَكِنْ قَدْ يُقال هَذَا الْمُتَشَابِهُ الْإِضَافِيُّ لَيْسَ هُوَ الْمُتَشَابِهَ الْمَذْكُورَ فِي القرآن فَإِنَّ ذَلِكَ قَدْ أَخْبَرَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إلَّا اللَّهُ وَإِنَّمَا هَذَا كَمَا يُشْكِلُ عَلَى كَثِيرٍ مِنْ النَّاسِ آيَاتٌ لَا يَفْهَمُونَ مَعْنَاهَا وَغَيْرُهُمْ مِنْ النَّاسِ يَعْرِفُ مَعْنَاهَا وَعَلَى هَذَا فَقَدْ يُجَابُ بِجَوَابَيْنِ:
أحدهما: أَنْ يَكُونَ فِي الْآيَةِ قرأءَتَانِ قراءة مَنْ يَقِفُ عَلَى قوله إلَّا اللَّهُ وَقراءة مَنْ يَقِفُ عِنْدَ قوله: {وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ} وَكِلْتَا القراءتَيْنِ حَقٌّ وَيُرَادُ بِالْأُولَى الْمُتَشَابِهُ فِي نَفْسِهِ الَّذِي اسْتَأْثَرَ اللَّهُ بِعِلْمِ تَأْوِيلِهِ وَيُرَادُ بِالثَّانِيَةِ الْمُتَشَابِهُ الْإِضَافِيُّ الَّذِي يَعْرِفُ الرَّاسِخُونَ تَفْسِيرَهُ وَهُوَ تَأْوِيلُهُ وَمِثْلُ هَذَا يَقَعُ فِي القرآن كَقوله: {وَإِنْ كَانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الْجِبَالُ} و{لِتَزُولَ} فِيهِ قرأءَتَانِ مَشْهُورَتَانِ بِالنَّفْيِ وَالْإِثْبَاتِ وَكُلُّ قراءة لَهَا مَعْنًى صَحِيحٌ. وَكَذَلِكَ القراءة الْمَشْهُورَةُ: {وَاتَّقُوا فِتْنَةً لَا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً} وَقرأ طَائِفَةٌ مِنْ السَّلَفِ: لَتُصِيبَن الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً وَكِلَا القراءتَيْنِ حَقٌّ فَإِنَّ الَّذِي يَتَعَدَّى حُدُودَ اللَّهِ هُوَ الظَّالِمُ وَتَارِكُ الْإِنْكَارِ عَلَيْهِ قَدْ يُجْعَلُ غَيْرَ ظَالِمٍ لِكَوْنِهِ لَمْ يُشَارِكْهُ وَقَدْ يُجْعَلُ ظَالِمًا بِاعْتِبَارِ مَا تُرِكَ مِنْ الْإِنْكَارِ الْوَاجِبِ وَعَلَى هَذَا قوله: {فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ أَنْجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ السُّوءِ وَأَخَذْنَا الَّذِينَ ظَلَمُوا بِعَذَابٍ بَئِيسٍ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ} فَأَنْجَى اللَّهُ النَّاهِينَ. وَأَمَّا أُولَئِكَ الْكَارِهُونَ لِلذَّنْبِ الَّذِينَ قالوا: {لِمَ تَعِظُونَ قَوْمًا} فَالْأَكْثَرُونَ عَلَى أَنَّهُمْ نَجَوْا لِأَنَّهُمْ كَانُوا كَارِهِينَ فَأَنْكَرُوا بِحَسَبِ قُدْرَتِهِمْ. وَأَمَّا مَنْ تَرَكَ الْإِنْكَارَ مُطْلَقًا فَهُوَ ظَالِمٌ يُعَذَّبُ كَمَا قال النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: «إنَّ النَّاسَ إذَا رَأَوْا الْمُنْكَرَ فَلَمْ يُغَيِّرُوهُ أَوْشَكَ أَنْ يَعُمَّهُمْ اللَّهُ بِعِقَابِ مِنْهُ» وَهَذَا الْحَدِيثُ مُوَافِقٌ لِلْآيَةِ. وَالْمَقْصُودُ هُنَا أَنَّهُ يَصِحُّ النَّفْيُ وَالْإِثْبَاتُ بِاعْتِبَارَيْنِ كَمَا أَنَّ قوله: {لَا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً} أَيْ لَا تَخْتَصُّ بِالْمُعْتَدِينَ بَلْ تَتَنَاوَلُ مَنْ رَأَى الْمُنْكَرَ فَلَمْ يُغَيِّرْهُ وَمَنْ قرأ لَتُصِيبَن الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً أَدْخَلَ فِي ذَلِكَ مَنْ تَرَكَ الْإِنْكَارَ مَعَ قُدْرَتِهِ عَلَيْهِ وَقَدْ يُرَادُ بِذَلِكَ أَنَّهُمْ يُعَذَّبُونَ فِي الدُّنْيَا وَيُبْعَثُونَ عَلَى نِيَّاتِهِمْ كَالْجَيْشِ الَّذِينَ يَغْزُونَ الْبَيْتَ فَيُخْسَفُ بِهِمْ كُلِّهِمْ وَيُحْشَرُ الْمُكْرَهُ عَلَى نِيَّتِهِ. وَالْجَوَابُ الثَّانِي: الْقَطْعُ بِأَنَّ الْمُتَشَابِهَ الْمَذْكُورَ فِي القرآن هُوَ تَشَابُهُهَا فِي نَفْسِهَا اللَّازِمِ لَهَا وَذَاكَ الَّذِي لَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إلَّا اللَّهُ وَأَمَّا الْإِضَافِيُّ الْمَوْجُودُ فِي كَلَامِ مَنْ أَرَادَ بِهِ التَّشَابُهَ الْإِضَافِيَّ فَمُرَادُهُمْ أَنَّهُمْ تَكَلَّمُوا فِيمَا اشْتَبَهَ مَعْنَاهُ وَأَشْكَلَ مَعْنَاهُ عَلَى بَعْضِ النَّاسِ وَأَنَّ الْجَهْمِيَّة اسْتَدَلُّوا بِمَا اشْتَبَهَ عَلَيْهِمْ وَأَشْكَلَ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ هُوَ مِنْ الْمُتَشَابِهُ الَّذِي لَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إلَّا اللَّهُ وَكَثِيرًا مَا يَشْتَبِهُ عَلَى الرَّجُلِ مَا لَا يَشْتَبِهُ عَلَى غَيْرِهِ. وَيَحْتَمِلُ كَلَامُ الإمام أَحْمَد أَنَّهُ لَمْ يُرِدْ إلَّا الْمُتَشَابِهَ فِي نَفْسِهِ الَّذِي يَلْزَمُهُ التَّشَابُهُ لَمْ يُرِدْ بِشَيْءٍ مِنْهُ التَّشَابُهَ الْإِضَافِيَّ وَقال تَأَوَّلْته عَلَى غَيْرِ تَأْوِيلِهِ أَيْ غَيْرِ تَأْوِيلِهِ الَّذِي هُوَ تَأْوِيلُهُ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ وَإِنْ كَانَ ذَلِكَ التَّأْوِيلُ لَا يَعْلَمُهُ إلَّا اللَّهُ وَأَهْلُ الْعِلْمِ يَعْلَمُونَ أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ ذَلِكَ التَّأْوِيلُ فَلَا يَبْقَى مُشْكِلًا عِنْدَهُمْ مُحْتَمِلًا لِغَيْرِهِ وَلِهَذَا كَانَ الْمُتَشَابِهُ فِي الْخَبَرِيَّاتِ إمَّا عَنْ اللَّهِ وَإِمَّا عَنْ الْآخِرَةِ وَتَأْوِيلُ هَذَا كُلِّهِ لَا يَعْلَمُهُ إلَّا اللَّهُ بَلْ الْمُحْكَمُ مِنْ القرآن قَدْ يُقال لَهُ تَأْوِيلٌ كَمَا لِلْمُتَشَابِهِ تَأْوِيلٌ. كَمَا قال: {هَلْ يَنْظُرُونَ إلَّا تَأْوِيلَهُ} وَمَعَ هَذَا فَذَلِكَ التَّأْوِيلُ لَا يَعْلَمُ وَقْتَهُ وَكَيْفِيَّتَهُ إلَّا اللَّهُ وَقَدْ يُقال: بَلْ التَّأْوِيلُ لِلْمُتَشَابِهِ لِأَنَّهُ فِي الْوَعْدِ وَالْوَعِيدِ وَكُلُّهُ مُتَشَابِهٌ وَأَيْضًا فَلَا يَلْزَمُ فِي كُلِّ آيَةٍ ظَنَّهَا بَعْضُ النَّاسِ مُتَشَابِهًا أَنْ تَكُونَ مِنْ الْمُتَشَابِهِ. فَقول أَحْمَد احْتَجُّوا بِثَلَاثِ آيَاتٍ مِنْ الْمُتَشَابِهِ وَقوله مَا شَكَّتْ فِيهِ مِنْ مُتَشَابِهِ القرآن قَدْ يُقال إنَّ هَؤُلَاءِ أَوْ إنَّ أَحْمَد جَعَلَ بَعْضَ ذَلِكَ مِنْ الْمُتَشَابِهِ وَلَيْسَ مِنْهُ فَإِنَّ قول اللَّهِ تعالى: {مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ} لَمْ يُرِدْ بِهِ هُنَا الْإِحْكَامَ الْعَامَّ وَالتَّشَابُهَ الْعَامَّ الَّذِي يَشْتَرِكُ فِيهِ جَمِيعُ آيَاتِ القرآن وَهُوَ الْمَذْكُورُ فِي قوله: {كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ} وَفِي قوله: {اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ} فَوَصَفَهُ هُنَا كُلَّهُ بِأَنَّهُ مُتَشَابِهٌ أَيْ مُتَّفِقٌ غَيْرُ مُخْتَلِفٍ يُصَدِّقُ بَعْضُهُ بَعْضًا وَهُوَ عَكْسُ الْمُتَضَادِّ الْمُخْتَلِفِ الْمَذْكُورِ فِي قوله: {وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا} وَقوله: {إنَّكُمْ لَفِي قول مُخْتَلِفٍ يُؤْفَكُ عَنْهُ مَنْ أُفِكَ} فَإِنَّ هَذَا التَّشَابُهَ يَعُمُّ القرآن كَمَا أَنَّ إحْكَامَ آيَاتِهِ تَعُمُّهُ كُلَّهُ وَهُنَا قَدْ قال: {مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ} فَجَعَلَ بَعْضَهُ مُحْكَمًا وَبَعْضَهُ مُتَشَابِهًا فَصَارَ التَّشَابُهُ لَهُ مَعْنَيَانِ وَلَهُ مَعْنًى ثَالِثٌ وَهُوَ الْإِضَافِيُّ يُقال قَدْ اشْتَبَهَ عَلَيْنَا هَذَا كَقول بَنِي إسْرَائِيلَ: {إنَّ الْبَقَرَ تَشَابَهَ عَلَيْنَا} وَإِنْ كَانَ فِي نَفْسِهِ مُتَمَيِّزًا مُنْفَصِلًا بَعْضُهُ عَنْ بَعْضٍ. وَهَذَا مِنْ بَابِ اشْتِبَاهِ الْحَقِّ بِالْبَاطِلِ كَقوله صلى الله عليه وسلم فِي الْحَدِيثِ: «الْحَلَالُ بَيِّنٌ وَالْحَرَامُ بَيِّنٌ. وَبَيْنَ ذَلِكَ أُمُورٌ مُتَشَابِهَاتٌ لَا يَعْلَمُهُنَّ كَثِيرٌ مِنْ النَّاسِ» فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ مِنْ النَّاسِ مَنْ يَعْرِفُهَا فَلَيْسَتْ مُشْتَبِهَةً عَلَى جَمِيعِ النَّاسِ بَلْ عَلَى بَعْضِهِمْ بِخِلَافِ مَا لَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إلَّا اللَّهُ فَإِنَّ النَّاسَ كُلَّهُمْ مُشْتَرِكُونَ فِي عَدَمِ الْعِلْمِ بِتَأْوِيلِهِ وَمِنْ هَذَا مَا يُرْوَى عَنْ الْمَسِيحِ عَلَيْهِ السلام أَنَّهُ قال: الْأُمُورُ ثَلَاثَةٌ: أَمْرٌ تَبَيَّنَ رُشْدُهُ فَاتَّبِعُوهُ وَأَمْرٌ تَبَيَّنَ غَيُّهُ فَاجْتَنِبُوهُ وَأَمْرٌ اشْتَبَهَ عَلَيْكُمْ فَكِلُوهُ إلَى عَالَمِهِ.
فَهَذَا الْمُشْتَبِهُ عَلَى بَعْضِ النَّاسِ يُمْكِنُ الْآخَرِينَ أَنْ يَعْرِفُوا الْحَقَّ فِيهِ وَيُبَيِّنُوا الْفَرْقَ بَيْنَ الْمُشْتَبِهَيْنِ وَهَذَا هُوَ الَّذِي أَرَادَهُ مَنْ جَعَلَ الرَّاسِخِينَ يَعْلَمُونَ التَّأْوِيلَ فَإِنَّهُ جَعَلَ الْمُشْتَبِهَاتِ فِي القرآن مِنْ هَذَا الْبَابِ الَّذِي يَشْتَبِهُ عَلَى بَعْضِ النَّاسِ دُونَ بَعْضٍ وَيَكُونُ بَيْنَهُمَا مِنْ الْفُرُوقِ الْمَانِعَةِ لِلتَّشَابُهِ مَا يَعْرِفُهُ بَعْضُ النَّاسِ وَهَذَا الْمَعْنَى صَحِيحٌ فِي نَفْسِهِ لَا يُنْكَرُ وَلَا رَيْبَ أَنَّ الرَّاسِخِينَ فِي الْعِلْمِ يَعْلَمُونَ مَا اشْتَبَهَ عَلَى غَيْرِهِمْ وَقَدْ يَكُونُ هَذَا قراءة فِي الْآيَةِ كَمَا تَقَدَّمَ مِنْ أَنَّهُ يَكُونُ فِيهَا قرأءَتَانِ؛ لَكِنَّ لَفْظَ التَّأْوِيلِ عَلَى هَذَا يُرَادُ بِهِ التَّفْسِيرُ وَوَجْهُ ذَلِكَ أَنَّهُمْ يَعْلَمُونَ تَأْوِيلَهُ مِنْ حَيْثُ الْجُمْلَةِ كَمَا يَعْلَمُونَ تَأْوِيلَ الْمُحْكَمِ فَيَعْرِفُونَ الْحِسَابَ وَالْمِيزَانَ وَالصِّرَاطَ وَالثَّوَابَ وَالْعِقَابَ وَغَيْرَ ذَلِكَ مِمَّا أَخْبَرَ اللَّهُ بِهِ وَرَسُولُهُ مَعْرِفَةً مُجْمَلَةً فَيَكُونُونَ عَالِمِينَ بِالتَّأْوِيلِ وَهُوَ مَا يَقَعُ فِي الْخَارِجِ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ وَلَا يَعْلَمُونَهُ مُفَصَّلًا إذْ هُمْ لَا يَعْرِفُونَ كَيْفِيَّتَهُ وَحَقِيقَتَهُ إذْ ذَلِكَ لَيْسَ مِثْلَ الَّذِي عَلِمُوهُ فِي الدُّنْيَا وَشَاهَدُوهُ وَعَلَى هَذَا يَصِحُّ أَنْ يُقال عَلِمُوا تَأْوِيلَهُ وَهُوَ مَعْرِفَةُ تَفْسِيرِهِ وَيَصِحُّ أَنْ يُقال لَمْ يَعْلَمُوا تَأْوِيلَهُ وَكِلَا القراءتَيْنِ حَقٌّ.
وَعَلَى قراءة النَّفْيِ هَلْ يُقال أَيْضًا: إنَّ الْمُحْكَمَ لَهُ تَأْوِيلٌ لَا يَعْلَمُونَ تَفْصِيلَهُ؟ فَإِنَّ قوله: وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ إلَّا اللَّهُ لَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ غَيْرَهُ يَعْلَمُ تَأْوِيلَ الْمُحْكَمِ بَلْ قَدْ يُقال: إنَّ مِنْ الْمُحْكَمِ أَيْضًا مَا لَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إلَّا اللَّهُ وَإِنَّمَا خَصَّ الْمُتَشَابِهَ بِالذِّكْرِ لِأَنَّ أُولَئِكَ طَلَبُوا عِلْمَ تَأْوِيلِهِ أَوْ يُقال بَلْ الْمُحْكَمُ يَعْلَمُونَ تَأْوِيلَهُ لَكِنْ لَا يَعْلَمُونَ وَقْتَ تَأْوِيلِهِ وَمَكَانَهُ وَصِفَتَهُ. وَقَدْ قال كَثِيرٌ مِنْ السَّلَفِ: إنَّ الْمُحْكَمَ مَا يُعْمَلُ بِهِ وَالْمُتَشَابِهَ مَا يُؤْمَنُ بِهِ وَلَا يُعْمَلُ بِهِ كَمَا يَجِيءُ فِي كَثِيرٍ مِنْ الْآثَارِ وَنَعْمَلُ بِمُحْكَمِهِ، وَنُؤْمِنُ بِمُتَشَابِهِهِ وَكَمَا جَاءَ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ وَغَيْرِهِ فِي قوله تعالى: {الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلَاوَتِهِ} قال يُحَلِّلُونَ حَلَالَهُ وَيُحَرِّمُونَ حَرَامَهُ وَيَعْمَلُونَ بِمُحْكَمِهِ وَيُؤْمِنُونَ بِمُتَشَابِهِهِ. وَكَلَامُ السَّلَفِ فِي ذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ التَّشَابُهَ أَمْرٌ إضَافِيٌّ فَقَدْ يَشْتَبِهُ عَلَى هَذَا مَا لَا يَشْتَبِهُ عَلَى هَذَا فَعَلَى كُلِّ أحد أَنْ يَعْمَلَ بِمَا اسْتَبَانَ لَهُ وَيَكِلَ مَا اشْتَبَهَ عَلَيْهِ إلَى اللَّهِ. كَقول أبي بْنِ كَعْبٍ- رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- فِي الْحَدِيثِ الَّذِي رَوَاهُ الثَّوْرِيُّ عَنْ مُغِيرَةَ- وَلَيْسَ بِشَيْءِ- عَنْ أَبِي الْعَالِيَةِ قال: قِيلَ لأبي بْنِ كَعْبٍ أَوْصِنِي فَقال: اتَّخِذْ كِتَابَ اللَّهِ أماما ارْضَ بِهِ قَاضِيًا وَحَاكِمًا هُوَ الَّذِي اسْتَخْلَفَ فِيكُمْ رَسُولُهُ شَفِيعٌ مُطَاعٌ وَشَاهِدٌ لَا يُتَّهَمُ فِيهِ خَبَرُ مَا قَبْلَكُمْ وَخَبَرُ مَا بَيْنَكُمْ وَذِكْرُ مَا قَبْلَكُمْ وَذِكْرُ مَا فِيكُمْ.